Flag Counter
خطأ بملء هذه الخانة
حقوق النشر محفوظة لمركز آفاق مشرقية الذي يصرح بإعادة نشر المواد شرط الإشارة إلى مصدرها بعبارة [المصدر : مركز آفاق مشرقية] *** ونود التنويه إلى أن الموقع يستخدم تقنية الكوكيز Cookies في متابعة حركة الموقع

ابن زرعة الصقلي ... قاضي القضاة أم كاردينال!

الكاتب : خيري الذهبي

2017-11-10 | |

قبل ظهور الديانات الابراهيمية, اليهودية والمسيحية والاسلام على تفرعاتها جميعا، وهي الأديان السائدة حاليا في العالم بالإضافة إلى الأديان الشرقية كالبوذية والهندوسية والكونفوشية ...إلخ، كانت مسألة الدين والانتقال من معبود الى آخر مسألةً عادية وروتينية، فالمسافر من روما الى مصر كان يعبد المعبود الروماني "جوبيتير" على أنه "رع" في مصر، فالاسم لفظ اصطلاحي وليس من الضروري أن يكون اسما مفارقا للمصطلح الذي ينادي به الرومان, فهو ليس إلا معلما من معالم الطبيعة، والشمس في روما هي الشمس في مصر وكذا القمر ...إلخ.

بدأ الصراع السياسي والقائم على تسيد المنتصر في العالم على المهزومين منذ الامبراطورية المصرية "الفرعونية" والبابلية على جيرانهما، ومنذ المشهد الأكثر تجليا في حفظ التاريخ له في الامبراطورية المكدونية "الاغريقية" للإسكندر وقادته الذين توازعوا امبراطورية الاسكندر على العالم القديم مبدئيا "سلميا"، ثم حلت الامبراطورية اللاتينية محلها جميعا بعد انطلاقتها من روما وانتصارها على الفينيقيين فيما سموه بالحروب البونية, والتي انتهت بإعلان روما أن البحر المتوسط قد أصبح منذ الانتصار على هانيبال "بحرنا، نوسترا ماري"، وهذا أمر لن يتجرأ أحد على إعلانه دون اعتراض منذ ذلك الحين إلا دولة استانبول "العثمانية" مستعينةً بالأمراء البحريين في الجزائر, والذين أطلق الغرب عليهم اسم "القراصنة" كخير الدين برباروس وأخيه عروج.

لم تستطع اليهودية التحول الى ديانة عالمية لعزلة منطلقها من حيث المبدأ، فهي ديانة مقصورة على بني إسرائيل "يعقوب" كما في التوراة, وعلى سبط يهودا ابن يعقوب الذي حمل الدين الاسرائيلي اسمه فيما بعد, وعلى العكس من اليهودية وُجدت المسيحية منذ البدء كديانة عالمية, لا محصورة بين أقلية قبلية أو عرقية, فحكاية الفداء عن جريمة آدم في أكله التفاحة التي نهاه الله عنها حررت الناس من "جريمة!" الخطيئة التي ارتكبها آدم حين أغرته حواء فأكل التفاحة, وحكاية الرب العالمي, وحكاية حمل أبناء آدم عبء عصيان أبيهم لأوامر الله؛ جعلت من الدين الجديد دينا عالمياً, وكانت هذه هي المرة الأولى "العالمية" في تاريخ الأديان الابراهيمية في المساواة بين أبناء الرب، ومسؤولية كل متدين عن خطاياه وآثامه, فالخطيئة لا تورث, والعقوبة لا تورث ... إلخ.

جاء الاسلام، وكان رداً على الخلافات الدموية بين المؤمنين بالمسيحية, والحروب والاضطهادات الدينية المروعة بين الآريوسية والنسطورية من جهة، واليعقوبية من جهةٍ أخرى، في تشدد كل منهما لرؤية منشئ المذهب, فالأوليان كانتا تؤمنان وتصران في المجامع الدينية التي عقدتها بيزنطة على أن المسيح ليس ابن الله كما تعلن اليعقوبية ومتابعوها في العالم, بل هو نشأ من أمر الله، وهو ليس ابناً ليعقوب النجار كما يزعم اليهود من سدنة المعبد، وهم أصحاب الصوت الأعلى في "أور شالم", بل حملت به أمه مريم حملا إعجازيا كآدم الذي لا أب له, فهو قد خلق من الإرادة الإلهية دون تحبيل أو دنس، وبالإمكان ملاحظة القربى الشديدة بين هذين المذهبين وبين الاسلام بالنسبة الى مسألة الولادة دون دنس, والاختلاف بينهم وبين كونه ابنا لله حسب الرؤى الأخرى، فيسوع كما أعلن عنه المجمع الخلقيدوني ، رفض القرآن شقه الإلهي وبنوته لله {قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد}، وما رسالة الرسول الكريم محمد "ص" إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها إلى الإسلام بقوله: "فإن توليت (رفضت) فإن عليك إثمك, وإثم الأريثيين من بعدك، والأريثيون هم الأريوسيون.

كان إعلان البيان المحمدي"الديني" كما فهمه البيزنطيون"الروم", هو انحياز كامل لفريق من الرؤى المسيحية ضد فريق مسيحي آخر!!، وبدأت الحرب التي حاول الروم الابتعاد عنها أو إيقافها بين المسيحيين, أي بين ذوي الإيمان  بألوهية المسيح والمؤمنين ببشريته, وكانت بيزنطة قد حاولت المصالحة بين المذهبين والرؤيتين في المجمع  الذي عقدته في مدينة خلقيدونيا في الأناضول قبل قرن أو يزيد قليلا حين جمعت بين  مفكري المسيحية ومؤمنيها في الاسكندرية وأنطاكيه وروما والقسطنطينية ...إلخ، لإيجاد طريقة لتوحيد المسيحيين, فكان الرأي الرسمي وهو منجز مجمع خلقيدونيأ: "المسيح ذو طبيعتين ... طبيعة إلهية, وطبيعة بشرية!!، فهو حين نزل الى الأرض وحاربه اليهود وصلبوه كان المسيح البشر، وحين صعد إلى السماء كان الإله"، وكان أن أصحاب الرؤيتين تصلبا في رؤيتيهما, فانضاف الى المذاهب المسيحية المذهب المصالح الخلقيدوني, وهو المذهب الذي يدين به من يسمون اليوم في سوريا "الروم الأرثوذكس".

 وجاء الاسلام، وأعلن أن المسيح ليس ابن الله, ولكنه ليس ابنا ليوسف النجار كما يصر اليهود, بل هو من روح الله , " ونفخ فيها من روحه" وإرادته كما كان خلق آدم من إرادة الله حين صنعه من طين، وأعتقد أن إعلان الرسول الكريم "ص" عن رأيه هذا هو ما سهل الفتوح على المسلمين في مصر وشمالي افريقية ... واسبانيا التي سيعرفها العرب باسم الأندلس، وهو اسمٌ  لقبائل  الفاندال التي خربت أوربا في ما قبل أثناء العصر اللاتيني، أي في "عصر امبراطورية روما.

كانت اسبانيا حسب رأي كثير من المؤرخين الإسبان (وهذا ما أميل إليه) كانت إسبانيا أو"ايبيريا" مقطونةً بشعبين: الأول هم "الحكام وهم قلة فاتحون من الفيزيقوط والقوط الغربيون" ويدينون بالكاثوليكية الغربية (روما), والثاني هم "الايبيريون" الأكثرية والذين يدينون بالأريوسية، وهؤلاء الايبريون الآريوسيون اعتقدوا أن المسلمين القادمين الى شمالي أفريقيا فاتحين هم من الآريوسيين كما يمارسون دينهم ويقولون في صلواتهم, فاتصلوا بهم لتخليصهم من الظلم الفيزيقوطي "القوط الغربيون"، فهؤلاء الايبيريون كانوا يشعرون بغبن هائل من علاقتهم غير المتكافئة مع الفيزيقوط, وظلمهم لهم لأسباب احتلالية، ولأسباب دينية في رفضهم الخضوع لروما في رؤيتها الدينية, فاتصلوا بالمسلمين على الجانب الآخر من البحر ودعوهم لتحريرهم من الفيزيقوط .

تاريخ الفتح الاسلامي لإسبانيا لم يكتب الا بعد ما لا يقل عن مئتي سنة, لذا فكل المكتوب عن هذا التاريخ من مبالغات؛ عن موسى بن نصير وطارق بن زياد، ربما كان من الأساطير الجميلة التي تفرح البسطاء من الناس، ولكن أن تتصور شبه قارة كايبيريا تُفْتَحُ على يد بضع مئات من الفرسان, وأن يخطب قائدهم البربري هذه الخطبة العصماء في جنوده: "البحر من ورائكم والعدو من أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر"!!!!؛ فمسألة مشكوك جدا في واقعيتها ومصداقيتها.

الأقرب إلى المعقول أن يكون هذا الفاتح الأمازيغي من الطوارق الساكنين حتى اليوم على حدود الصحراء يعملون في تجارة الملح, المادة الأثمن للصحراويين المنتشرين من موريتانيا وحتى ليبيا، الأقرب إلى المعقول (كما أعتقد) أن المؤرخ المسلم الذي تنطح لرواية كيفية فتح الأندلس (والأندلس إقليم صغير جداً من شبه القارة ايبيريا)، اعتبر أن "طارق" هو اسم مفرد لكلمة "طوارق"، و أن هذا المؤرخ المسلم وحين عجز ولم يجد مادة صلبةً؛ اخترع مادة لغوية جميلة عن بطولات المسلمين في إحراقهم لسفنهم, وأي قائد عسكري محترف يحرق سفن إمداده ونجدته زمن الحرب ثم يحارب سكان شبه قارة فيفتحها دون صعوبات تذكر!!! إلا لو كانوا آريوسييين مرحبين به، وهم من أسلموا بعد بضع عقود من الزمن فكان منهم العلماء والشعراء والقضاة ...إلخ.

كان الفتح العربي لايبيريا اختراقاً لأوروبا, وكان الفايكنغ الاسكاندينافيون القراصنة يهاجمون كل البر الأوربي ومنه إسبانيا المسلمة، فدعاهم المؤرخون المسلمون في كتاباتهم بـ "المجوس" أي الوثنيين، مميزين بينهم وبين أتباع الديانات الابراهيمية، هذا وقد نهب الفايكنغ إسبانيا المسلمة كما نهبوا فرنسا, فهاجموا فرنسا وأسسوا في جزء منها إقليمهم المدعو "النورماندي" أي بلاد الشماليين حيث أقاموا، وهاجموا بريطانيا وأسسوا فيها إقليم "ساكسونيا"ً, كما هاجم هؤلاء النورمان الاسكاندينافيون الذين يدعون أيضاً بـ "شعوب الشمال الأوربي"، هاجموا إيطاليا الممزقة فاحتلوا منها أجزاء كبيرةً كإقليم لومباردي وجزيرة صقلية.

جزيرة صقليه التي كانت جزيرة إسلامية منذ بضعة قرون قبل وصول النورمان, كان التونسيون الأغالبة قد غزوها العام 827 واحتلوا الجزء الأكبر منها حتى العام 909، حيث كانت قبل الغزوة الإسلامية تابعة لبيزنطة سياسيا، ودينيا لـ "مجمع خلقيدونيا", ثم استمر الحكم الفاطمي فيها منذ العام 965 وحتى العام 1091 حين غزاها "النورمان الاسكاندينافيون الفايكنغ" وطردوا "الأغالبة المسلمين" منها, وأحلوا الكاثوليكية محل الأرثوذكسية البيزنطية لدى مسيحيي صقليه, واللغة اللاتينية محل اليونانية, وانتقل إليهم خبر غضب القيصر البيزنطي حيث تسرب إلى روجر النورماني فاتح صقليه خبر إرسال القيصر إلى البابا طالباً نجدة بيزنطه الحصن الأول للمسيحية من السلاجقة المسلمين، فلم يكترث لغضب القيصر واحتجاجاته, ولكنه ما كاد يستقر في صقليه حتى وصل إليه نداء البابا إلى مسيحيي العالم "لإنقاذ أور شاليم" من المسلمين.

بعد سيطرة النورمان على صقلية تَيَتَّمَ مسلمو صقليه بحرمانهم من جيش الأغالبة المدافعين عنهم, فوقفوا خائفين من قادمات الأيام حيث لا جيش ولا قضاء ولا إفتاء ولا خطبة جمعة, فالحاكم الجديد هو روجر النورماني، وكان في صقلية قاض للقضاة ومفتٍ هو "ابن زرعة"، وكان عالما كبيراً بالأديان, وأدرك أن الحكام المسلمين لا عودة لهم إلى صقلية, فالريح باتت شمالية ولم يعد للجنوب فيها نصيب, فمضى إلى  روجر النورماني حاكم صقليه, وعرض عليه استعداداه للتنصر شريطة حصوله على منصب كبير يعادل منصبه كقاضٍ للقضاة ومفتٍ للمسلمين, فوعده روجر خيراً واتصل بالبابا في روما, فوافق البابا على إعطائه منصبا كنسيا كبيرا لو تنصر، وكان يعرف أن تنصره مغرٍ لباقي المسلمين الصقليين من أجل تنصرٍ هادئ، وهذا ما كان فيما بعد كما تدلنا الحوادث.

 تسلم ابن زرعة المنصب الكنسي الكبير ككاهن مسيحي كبير، وأُسْقِطَ في يد الفلاحين والتجار الصغار حين اكتشفوا تيتمهم؛ فلا حاكماً سياسياً ولا جيشاً يدافع عنهم, ولا قاضٍ يحكم بينهم حسب الشرع الاسلامي، وهكذا تجمع رؤساؤهم ومضوا إلى ابن زرعة واشتكوا إليه وضعهم وحاجتهم إلى قاضٍ يقضي بينهم وإلى مفتٍ يفتيهم في مستجدات أحداثهم، ورجوه العودة عن تنصره والاستمرار في رئاستهم دينياً أو استدعاء عالم بقيمته وعلمه يقوم بأمر دينهم، وبعد تفكير طويل ومراجعة طويلة وافق "ابن زرعة" على أن يقسم زمنه بين المسلمين رعيته زمن إسلامه، والمسيحيين رعيته الحاليين، فوزع "ابن زرعة" وقته بين الدينين والرعيتين؛ لكل دين ثلاثة أيام في الأسبوع، ورضي الجميع فلقد وفقوا في العثور على راعيهم وفقيههم ودليلهم إلى ملكوت السموات!!!.

خيري الذهبي / روائي ومفكر سوري

المادة المنشورة تعبر عن رأي الكاتب ولا يتبناها بالضرورة مركز آفاق مشرقية، ويتحمل الكاتب المسؤولية القانونية والعلمية لمضمون هذه المادة.

: تقييمك للمقال
التعليقات

كن أول من يكتب تعليقاً

اترك تعليقاً
1000
نشكر مساهمتكم والتعليق قيد المراجعة
Share
حقوق النشر محفوظة لمركز آفاق مشرقية الذي يصرح بإعادة نشر المواد شرط الإشارة إلى مصدرها بعبارة "المصدر : مركز آفاق مشرقية" © 2017 Oriental Horizons. All Rights Reserved.