كن أول من يكتب تعليقاً
أتذكر في العامين الأولين للثورة، وفي عشرات اللقاءات الشخصية لي مع الأمريكان؛ حرصهم على عدم توجيه أي ضربة جوية للنظام لتحييد قصفه للمدنيين أو إنشاء مناطق آمنة لهم، مرة بحجة تخوفهم على البنية التحتية لجيش النظام الأسدي باعتباره جيش سوريا ومطاراته ودفاعاته الجوية ملك للشعب!!!، ومرة وبشكل معاكس (بتصريحات رسمية أحياناً) بحجة تخوفهم من القدرة العسكرية الكبيرة لدفاعات النظام الجوية!!!، الأقبح من هذا كان ترديدهم معزوفة تخوفهم من "إسلامية الثورة" منذ اليوم الأول لها وبسلميتها وشعاراتها، مستندين إلى دليل قاطع برأيهم يتمثل بهتاف المتظاهرين بعبارة "الله وأكبر"، كما حرص الأمريكيون ومنذ اليوم الأول على تأكيد "حرصهم على وحدة سوريا وعدم تقسيمها"، وأخيراً "تخوفهم على مصير الأقليات من الأكثرية العربية السنية".
وهكذا أصر الملاك الأمريكي المسالم على عدم التدخل في سوريا، ورفض تسليح أو السماح بتسليح المعارضة حتى لا يتم تأجيج "الحرب الأهلية" (فهم لم يسموها يوماً بالثورة)، ووقوع السلاح بالأيدي الخطأ (الإرهابيين) ... في جملة يرددها الأمريكي منذ خمس سنوات وفق سياسة رسمها "باراك حسين أوباما"، وتابعها "ترامب" الذي يتنمر على العالم موزعاً التهديدات بلا حساب، مع نظرات الازدراء حتى لحلفائه، لكنه يصمت كقطٍ وديع عندما يتعلق الأمر بالروس و"صبي" الجميع وحبيبهم "الأسدي"، ليُترجم الأمريكي خلال ست سنوات موقفه "الملائكي السلمي العنيد" هذا، الرافض للتدخل في سوريا ومنع تأجيج الصراع المسلح فيها، ليترجمه بالخطوات "السلمية اللاعنفية التالية":
إنشاء عشر قواعد عسكرية في شمال وشرق سوريا بعضها تحوي مطارات.
تسليح ميليشيات كردية أوجلانية مصنفة "إرهابية" بحجة حرب داعش.
نشر قواته على طول الحدود مع تركيا لحماية هذه الميليشيات.
قتل يومي لعشرات المدنيين السوريين العرب السنة عبر قصف طائراته لهم بحجة حرب داعش.
التخطيط لحملة مشابهة لتهجير مليوني عربي سني في إدلب وريف حماه، أو إخضاعهم لسلطة الأسد من جديد بحجة حرب القاعدة.
منع أي سلاح عن الثوار "المعتدلين" حسب التصنيف الأمريكي، بحجة أن السلاح يُقدم فقط لحرب داعش بإدارة أمريكية، وهو ما حصل في الحدود مع الأردن والقلمون الشرقي، حيث وبعد أشهر من القتال لتحرير تلك المناطق من داعش، تُرك النظام الأسدي بغطاء روسي ليفتك بمن طرد داعش ويتسلم تلك المناطق نظيفة بينما الأمريكي يراقب بغدر نهاية من دعمهم بالقليل جدا وحرروا بتضحيات كبيرة الكثير جدا من داعش.
منع أي جهة إقليمية من تقديم أي دعم لوجستي أو غطاء جوي أو تدخل مباشر لدعم "المعتدلين" حتى لو كان الأمر لحرب داعش في شمال سوريا، أو شرقها، ومن ذلك منع الأتراك من التدخل لحرب داعش، ومنع "المعتدلين" من التوجه إلى أدلب وشرق حمص لقتال داعش، ومثل ذلك يجري اليوم في حصار "المعتدلين" لإضعافهم ضمن مناطق سيطرة القاعدة في إدلب وصراعهم معها، بانتظار وصول قوات النظام بدعم روسي، والعصابات الكردية الإرهابية بدعم أمريكي، لتتقاسم التركة.
الهدف الأمريكي كان منذ 2014 الوصول لتحقيق الكذبة التي كان ولا زال يرددها، والمتمثلة بالادعاء الذي يردده بألف طريقة بأنه "لا يوجد بديل لمعادلة معتدلة للنظام الأسدي في سوريا، وأنه لا يوجد في سوريا إلا طرفان: النظام الأسدي الطائفي وخادمه الكردي الأوجلاني الإرهابي ... أو والقاعدة، وعلى العالم أن يختار بينهما".
إعطاء الضوء الأخضر للتدخل الإيراني الطائفي وأدواته المصنفة إرهابياً في لبنان وتلك التي تعمل بإشراف أمريكا في العراق، لاحتلال سوريا وإذكاء الانقسام والحرب والطائفية وتقسيم سوريا من قبل النظام الأسدي.
إعطاء الضوء الأخضر للتدخل الروسي العسكري المباشر وجرائم القتل والتدمير والتهجير التي يمارسها الروسي لدعم النظام مع حرمان "المعارضة المعتدلة" كما تسميها أمريكا، من أي تسليح حتى لمقاومة داعش باعتبار أن هذه الأسلحة قد تستخدم في حرب النظام.
دعم الأمريكي لكل هذه الأطراف، النظام الأسدي والروس والإيرانيين وخادمهم الكردي الأوجلاني، وتقاسم سوريا معهم وتقسيمها عملياً مع تنفيذ عملية تهجير طائفي قومي بحق الأكثرية من العرب السنة في سوريا استكمالاً لما جرى في العراق، ودائماً بحجة محاربة الإرهاب، دون أي مساس لوجود أو سلطة أو نفوذ أي أقلية في هذا الصراع مهما فعلت، لتتحول الأكثرية "المتهمة دائماً بالإرهاب" إلى أقلية من نوع خاص لا تستحق التخوف على مصيرها.
الضغط المستمر على المعارضة السياسية للقبول بما يفرضه عليهم ممثل أمريكا ديميستورا بما يحافظ على النظام الأسد بكل مكوناته وتركيبته الطائفية وعليه شخصياً مع قتل للعدالة وأي إشارة لمحاسبة المجرمين بما فيها العدالة الانتقالية التي يجري تغييبها تماماً.
الضغط على المعارضة العسكرية عبر حصارها ومنع تسليحها من قبل أي طرف لمنع انتصارها على النظام الأسدي، ومن ثم لتبتلعها القاعدة، وأخيراً لتخضع لرغبة الأمريكان بالاستجابة للمطالب الروسية بعد توكيل الأمريكي للروس بالملف السوري بشكل كامل منذ 2013.
منع المعارضة من الحصول على أي شرعية قانونية دولية واعتبار أمريكا أن النظام الأسدي هو الممثل الشرعي لسوريا كما صرح بذلك بشكل شبه مباشر "جون كيري" في جلسة مجلس الأمن التي حضرها منذ عام، وأكد على ذلك مسؤولو الإدارة الأمريكية في لقاءات إعلامية منشورة، وسمعتها وسمعها من اجتمع مع الأمريكي في مناسبات عديدة، ليستمر النظام باحتلال مقعد سوريا بعنجهية وثقة في الأمم المتحدة برضى ومباركة أمريكية غربية أوروبية بينما يتم رشوة بعض المعارضة بمكاتب تمثيلية "يستنفع" منها فقط القائمين عليها، لتستمر سفارات النظام بالعمل ويستمر ضغطها على السوريين المهجرين، وتستمر الأمم المتحدة وبأمر أمريكي بطلب إذن النظام لإدخال مساعدات إلى داخل سوريا لتصل كلها لمستودعات جيش النظام وبيوت شبيحته القتلة.
تمويل أمريكا لعشرات منظمات المجتمع المدني التي تهدف إلى اختراق الثورة وإعادة تأهيل النظام بأشكال مختلفة، لتتشدق أمريكا وتقول بعدها أنها أكبر المانحين.
ولأن القائمة طويلة وتفصيلها يحتاج إلى مجلدات، نختم أخيراً، وبمناسبة الذكرى السنوية لجريمة أوباما والمجتمع الدولي بمكافأة القاتل: منع لجنة تحقيق الكيماوي حتى اللحظة من إعلان المسؤول عن مجزرة الكيماوي في الغوطة قبل أربع سنوات، و"تمرير" مجزرة خان شيخون وما بينهما من عشرات المجازر، مع تصنيف "الكلور" على أنه "كيماوي صديق".
وبعد هذه القائمة الطويلة، وبشكل مشابه لابتكاره الفلسفي غير المسبوق لـمصطلح "الأسلحة غير الفتاكة" التي سبق وزود بها "المعارضة المعتدلة" من قبيل الألبسة العسكرية، وبنفس هذه العبقرية الفلسفية التي برع بها في زرع الحب في العالم؛ يقدم الأمريكي نفسه في سوريا أيضاً كـ "راعي بقر لاعنفي!!!"، في أحدث أنتاج فلسفي ألهمته له المذابح والتهجير الطائفي العرقي في سوريا، ليقول الأمريكي شرطي العالم وراعيه في ادعاء بمستوى ثقافي وأخلاقي وسياسي يناسب مستواه ونظرته للعالم وللسوريين خاصة و"استبقاره" لهم ولحيواتهم بالطريقة التي يتقنها باعتباره "راعي بقر"، ، ليقول لهم وبعد كل ما فعل في سوريا: "أمريكا لا تريد التدخل في سوريا".
فواز تللو / سياسي وكاتب سوري
مركز آفاق مشرقية للدراسات الاستراتيجية
المادة المنشورة تعبر عن رأي الكاتب ولا يتبناها بالضرورة مركز آفاق مشرقية، ويتحمل الكاتب المسؤولية القانونية والعلمية لمضمون هذه المادة.