كان عام 2012 يودع يومه الأخير ليلاً على وقع ألعاب نارية حقيقية؛ أصوات الدوشكا وهي تلعلع من مرابض أشاوس النظام السوري موزعين الموت على "أهل البلد" محتفلين بطريقتهم بقدوم العام الجديد، وبينما الاحتفال على قدم وساق طُرِق باب الزنزانة بعنف وفُتِح الباب، وبنبرة تشفٍّ وحقد هاربة من عالم الإنسانية تعالى صوتٌ ملعلعاً "رَيحوا للكلب ... بكرا دوره".
لاح أمامي فجأة رجل سبعيني عارٍ إلا من جاكيت بذلة, يرتجف مرتعداً، مذهولاً غير مدركٍ لما حوله؛ 119 جسم بشري عاري إلا من التعب والوهن وسط عتمة وهمهمات حول القادم الجديد ... أشرت له بالتقدم نحوي عبر وفوق الأجساد البشرية المكومة على الأرض ورائحة الإنتانات والعفن والدم تعبق بالمكان، نهضت ماداً يدي لتلتقي يده في العتمة ويتحرك نحوي مصطدما بمعتقلين متلاصقين كل على مملكته؛ مملكة البلاطة 40×40 سم، ومن هذا الجديد ليقتحم المملكة!!!
وصل الوافد الجديد "لمملكتي" بعد أن قطع الأمتار الممتلئة بالأجساد والأرواح المعذبة, همست له بالجلوس بجانبي مزاحماً جاري قليلاً ليسقط بيننا عسى أن يرتاح قليلاً حتى الصباح استعداداً للتحقيق الذي ينتظره كما قال السجان لرئيس الزنزانة.
"من أنت أخي الكريم؟ ولماذا أنت هنا؟ وكيف الوضع برا؟ من أي منطقة أتيت؟ شو عامل؟" ... وعشرات الأسئلة التقليدية المماثلة تنهمر من حولنا لنطمئن، فلا مصدر للمعلومات إلا عبر معتقل جديد أو وافد من سجن آخر، يحمل أخباراً سمعها أو شاهدها، لندقق ونحلل ونركب ونبني حولها الأمنيات.
"أنا أبو كفاح، عمر محيبش، طبيب فلسطيني من مخيم اليرموك بدمشق ... المخيم سقط بيد الثوار منذ بضعة أيام، وجماعة أحمد جبريل والمنظمات الفلسطينية السورية تحاصر المخيم مع جيش النظام السوري ويقصفون المخيم ليل نهار بمن بقي فيه من 150 ألف فلسطيني وسوري ... اعتقلوني من منزلي الذي استأجرته مؤقتاً في دمشق وهم يعذبونني منذ يومين طالبين اعترافي بأنني أساعد من يسمونهم بالإرهابيين كوني طبيب عظمية مختص".
"طيب يا عم، ريح حالك ... هل أنت جائع؟ معي قطعة خبز صغيرة ونصف حبة بطاطا مسلوقة؟" ... أخرجتها من بقايا الأحذية والملابس المهترئة التي أستخدمها كوسادة أستند عليها عند الغفوة... التقطها على الفور وبدأ بتناولها، هو جائع ومرهق ولم يأكل شيء منذ يومين متأثراً بشدة الإرهاب والضغط النفسي الذي يرافق ساعات الاعتقال الأولى ... قال "منذ يومين يشبحونني لثلاث ساعات ثم ينزلوني لساعتين ليضربوني، لا أعرف بالضبط ماذا يريدون؟؟؟".
مضت ساعات وبدأ الصراخ لأخذ المطلوبين للتحقيق للخروج، وخرجت دفعة من الزنزانة، كان أبو كفاح يرتجف خوفاً من العودة للتحقيق والشبح، لم يطلبه السجان فأطمأن قليلاً وارتاح لصحبتي، بدا مستغرباً الأعداد الكبيرة في الزنزانة والإصابات التي بدأ يلاحظها عبر الضوء القليل الذي يتسلل من النافذة العلوية للزنزانة، كآثار الضرب، والالتهابات الشديدة بالخراجات، والكسور وظهور العظام بدون لحم، والتقيحات والجروح المفتوحة بدون أي علاج، والقوباء على أجسام المعتقلين ... ثم بدأ ينظف جروحه بقليل من الماء و بقايا قطعة قماش كانت في جيبه.
سألني أبو كفاح عن إمكانية الحصول على علاجٍ هنا، فطلبت منه الصمت، ونبهه زميلي المعتقل الآخر أن لا يطلب من السجان أي علاج أو التحويل للمشفى، لأن الذي يخرج للمشفى للعلاج في أغلب الأحيان لا يعود ويُقْتَلُ هناك من قبل المساعد عزرائيل!!! المختص بقتل المرضى يومياً، "انتقاماً منهم ومن الثورة ... ومن الحرية، وبتفويض رباني" حسب ما سمع منه بعض المرضى المحظوظون الذين كُتِبَ لهم عمر جديد كونهم عادوا أحياءً بعد تحويلهم لمشفى المزة العسكري!!!
فجأة؛ فُتِحَتْ الشراقة وصرخ السجان "وين الدكتور تبع مبارح هاتوه للجحش!!!" ... نهض الرجل منتفضاً برعب متجهاً إلى الباب بانتظار فتحه، ثم خرج ... ما هي إلا دقائق حتى سمعنا أصوات ضربٍ وتعذيبٍ وصراخ وضوضاء لم نعهدها، استنتجنا أن هناك "وجبة" معتقلين كبيرة جديدة ... غاب الدكتور أبو كفاح حتى المساء، فُتِحَ الباب وسقط مرتجفاً غائباً عن الوعي، طلبت من المعتقلين سحبه ومساعدته ليصل عندي؛ حمله بعض المعتقلين وأسندوه للحائط ليرتاح بعد "الحفلة"، كان البرد قارصاً فغطيته بجاكيته و بقايا بطانية عسكرية حتى يشعر ببعض الدفء ويسكن جسده، غاب لثلاث ساعات عن الوعي ثم بدأ يصحو، مسحت وجهه ببعض الماء وناولته "حصته" من الطعام؛ نصف خبزة وحبة بطاطا مسلوقة، أخبرني أنهم نسوه مشبوحاً وهم يضربوه منذ الصباح حتى المساء ليعترف!!!، كان يشعر وكأن يداه قد شلتا وأن مفاصله قد تمزقت بسبب ربط يديه للأعلى لتحمل جسمه المتدلي كالمشنوق ... ارتاح حتى الصباح، وبدأت سؤاله عن مضمون تحقيقه، فقال "المحقق إبن حرام، يريد تلفيق تهم لي بأنني ساعدت مقاتلين منشقين عن النظام، وأنني عالجت أحد العسكريين منذ أشهر في منزله بصحبة ممرضتي التي يطلبون مني الاتصال بها لترتيب كمين لاعتقالها".
أخبرني أبو كفاح القصة: "هناك ممرضة عملت في عيادتي قبل سنوات، اتصلت بي قبل شهر في عيادتي، وبحكم عملي كطبيب عظمية طلبت مني الحضور لمنزل مريض وفك الجبس، كان شاباً ثلاثينياً لا أعرفه ولم أره قبل ذلك، ولأن مشافي المنطقة مغلقة؛ قمت كطبيب بواجبي وعالجته وأزلت الجبس بأدواتي، ووصفت له العلاج المناسب وعدت لبيتي، لكن أحد مخبري النظام في المنطقة علم بالقصة ... كيف ومتى لا أعرف، وكتب بي تقريراً وأصبحت مطلوباً".
شرح لي ما تعرض له من تعذيب شديد في الساعات الأولى والإهانات ووو.... "علماً أنهم يعرفون أنني كنت رئيس شعبة جراحة ومدير مشفى حكومي بدمشق لكن ذلك لم يشفع لي، كما لم يشفع لي عمري البالغ 71 عاماً، ولا خدماتي للحكومة، ولا اسمي، ولا مهنتي كطبيب مهمتي علاج أي مريض بغض النظر عن وضعه باعتبار ذلك حق إنساني له".
كان أكثر ما يثير استغرابه وغيظه السب والشتم والاتهامات للشعب الفلسطيني والحركات الفلسطينية الثورية، واتهامات العمالة ومساعدة الثوار جنوب دمشق، وما كانوا يسمونه "خيانة" حركة حماس للنظام السوري الذي رعاها شكلاً (وتاجر بها) قبل الثورة، ووقوف جماعة أحمد جبريل فقط مع النظام، وأن كل فلسطيني غير أحمد جبريل وطارق الخضرا هو إرهابي خائن لقضيته وسيطردونه من سوريا، وأنهم سينتقمون من سقوط مخيم اليرموك لخيانة أهله الفلسطينيين وتعاونهم مع الثوار وأنهم سيشردونهم مرة ثانية.
أخبرني سر الضجيج الذي سمعناه صباحاً في الخارج ومشاهدته لعشرات المعتقلين الجدد الفلسطينيين من المخيم وهم يتلقون الضرب بالعصي وكابلات الكهرباء مع سب وشتم الشعب الفلسطيني "الذي يجب أن يُحْرَق للتخلص منه"، وكيف ضُرب طفل فلسطيني يقارب 12 عاماً من العمر على رأسه وفقد الوعي وتهتك رأسه، ثم كيف طلب السجان سحب جثته ووضعها في حاوية القمامة.
طالت الأيام بأبي كفاح في زنزانتنا، وبدأ بتقديم المشورة الطبية والعلاج لبعض الحالات ... طلبنا لكن دون جدوى الملح لمعالجة الجروح فقد كان ممنوعاً أصلاً من دخول الزنزانة، فكان البديل هو الماء وقماشٌ مهترئٌ وبقية من منظف الحمامات "سافلون" أحضره السجان لمعالجة الإنتانات والجروح التي تصدر رائحة كريهة حتى لا تزعجه رائحتها في كل مرة يدخل فيها "للتفقد".
في ليالي الشتاء الباردة تلك تلاصقت أجسامنا لنشعر بالدفء، كنا نترنم بأغنية أم كلثوم "بيني وبينه" لنخفف عذاباتنا, وبأغنية "أصبح عندي الآن بندقية"، و"إلى فلسطين خذوني معكم، إلى ربىً حزينة، كوجه المجدلية، إلى القباب الخضر والحجارة النبيَّة" ... تذاكرنا حال الفلسطينيين و نضال الطليعة الفلسطينية, وهم فلسطين وتحريرها، و أهمية الثورة السورية للنضال الفلسطيني، و ما سمع وشاهد وعلم من تجارة النظام وحلفاءه بقضية فلسطين.
غادرنا الحكيم أبو كفاح بعد أشهر إلى معتقل آخر، ثم غادر المعتقل عائداً إلى السجن الأكبر المفتوح الذي عاش فيه واعتقل منه، ليغادر بعدها سوريا وينفذ السجان وعده لكل فلسطيني ويغدو أبو كفاح لاجئاً مرة أخرى ... كان واضحاً أن الانتقام من كل فلسطيني ديدن هذا النظام وأمثاله من الأنظمة، وأن بيع عذاباتهم تجارة رائجة، وقناعاً يخفون به عورات استبدادهم ... لكن في تلك الزنزانة سقطت الأقنعة، في تلك الزنزانة التقت عذابات فلسطين وسوريا، التقى الطبيب والشاعر والكاتب الفلسطيني عمر محيبش أبو كفاح والثوار الفلسطينيون الأوائل مع أحرار سوريا، التقى الفلسطيني والسوري في زنزانة واحدة، من أجل قضية حرية واحدة، في وجه مستبد واحد ... سوري أم فلسطيني سوري، ذلك لم يكن هاماً، فالكل كان قبلها وصار يومها وبقي بعدها ... "واحد واحد واحد".
مروان العش / سياسي وكاتب سوري
مركز آفاق مشرقية
المادة المنشورة تعبر عن رأي الكاتب ولا يتبناها بالضرورة مركز آفاق مشرقية، ويتحمل الكاتب المسؤولية القانونية والعلمية لمضمون هذه المادة.
نظام مجرم لا إنساني ..لكن للباطل جولة وإن طالت
من أمل رشيد