Flag Counter
خطأ بملء هذه الخانة
حقوق النشر محفوظة لمركز آفاق مشرقية الذي يصرح بإعادة نشر المواد شرط الإشارة إلى مصدرها بعبارة [المصدر : مركز آفاق مشرقية] *** ونود التنويه إلى أن الموقع يستخدم تقنية الكوكيز Cookies في متابعة حركة الموقع

فتاة "زلغوطة" الجامع

الكاتب : فواز تللو

2019-03-08 | |

سقط جريحاً في "ليلة القدر" في السابع والعشرين من رمضان الثورة السورية الأول عام 2011، كان من ضمن المعتصمين في مسجد الرفاعي يوم هتفوا للثورة وحوصروا.

 سقط الشاب الدمشقي "محمد خير العلبي" جريحاً واستشهد في اليوم التالي متأثراً بجراحه، أو ربما وغالباً على يد طبيب أو ممرضة طائفية كانوا يكملون مهمة أقرانهم الشبيحة والمخابرات ... رفض أمن النظام (المخابرات) تسليم الجثمان لعائلته إلا ضمن شرط واحد: أن يحظى بـ "تشييع اعتيادي" وليس "تشييع شهيد"، فالتشييع الأخير يعني مظاهرة أخرى، ووافق الأهل متعهدين بذلك كما علمنا لاحقاً.

انتشر الخبر بأن التشييع سيكون بعد صلاة الظهر في أول أيام عيد الفطر من جامع اسمه "جامع أبو أيوب الأنصاري" على ما أذكر أو ربما حمل اسماً آخر ... هو جامع يقع في طرف حي الميدان الدمشقي في منطقة "الزاهرة القديمة"، يتوسط الطريق بينه وبين مقبرة "باب الصغير" حيث سيتم الدفن؛ يتوسط الطريق ساحة باب مصلى حيث "إدارة الأمن الجنائي".

ذهبت مع قريب لي للمشاركة في التشييع، في الطريق مررنا قرب المقبرة ومن ثم الساحة فلاحظنا نوعاً جديداً من شبيحة النظام .. يلبسون الأسود الداكن مدججين بالسلاح كأنهم من أفراد قوة خاصة .. دخلنا الجامع قبيل آذان صلاة الظهر وانتظرنا ... توافد بضع عشرات من الشبان بصمت .. استغربنا قلة العدد لكن الخبر انتشر بأن شرط تسليم الجثمان للأهل كان عدم تنظيم جنازة شهيد.

بعد قليل وصل التابوت والجثمان محمولاً من قبل موظفي "مكتب دفن الموتى" .. تراكض الشباب لحمله ووضعوه حيث أشار لهم إمام الجامع وهو يذكرهم برغبة الوالد الحاضر بجانبه بعدم إثارة أي أمر.

بعد صلاة الظهر صلينا صلاة الجنازة على الشهيد بصمت دون حتى كلمة أو دعاء من الإمام كما جرت العادة .. كان الجو مشحوناً بمشاعر الحزن والغضب .. بدأ الجو بالتوتر واقترب الشباب من التابوت لحمله والخروج للتشييع، هنا تدخل إمام الجامع ووالد الشهيد بحزم للطلب من الشباب الهدوء مشدداً على عدم إثارة أي أمر وأن يتم التشييع بهدوء دون أي كلمة أو هتاف .. كان الوالد المكلوم يشدد على ضرورة مراعاة مطالبه كونه والد الشهيد وصاحب الحق وهو ما أحرج الشباب.

بالفعل، كظم الشباب بصعوبة وحزن غضبهم وحماسهم مراعاة للوالد الذي كان مضطراً لكل ما فعل ليحمي نفسه وعائلته مبدياً خوفه على الشباب المشيعيين أيضاً إن فعلوها باعتبارهم "مثل إبنه" .. حمل الشباب لتابوت متوجهين لباب الجامع .. فجأة ومن السدة العلوية حيث تجلس النساء عادة حدث أمر .. لم نكن منتبهين لوجودهم خاصة أن النساء لا يشاركن عادة في الصلوات الاعتيادية .. كانوا خارج حسبان الإمام ووالد الشهيد .. وهكذا وفجأة وقبيل وصول التابوت إلى باب الجامع تصاعدت "زلغوطة" تبعها سيل من "الزلاغيط" من سدة النساء .. "زلاغيط" نطلقها عادة في زفة العريس، لم يسبق أن أطلقها أحد عبر التاريخ من داخل مسجد .. لكن صبايا الثورة فعلنها .. فقد فهمن تماماً دور المسجد.

زلاغيط كان لها فعل السحر ... فخلال لحظات، وقد كان التابوت قد وصل لباب الجامع، تجاهل الشباب كل التحذيرات وبدأوا بالتكبير والهتاف للشهيد .. ليخرج الجثمان من باب الجامع بما يليق به .. وخلال دقيقة "نبع" الشباب والصبايا من كل الزوايا والحارات المجاورة ليتحول إلى حشد بالمئات وربما تجاوز الألف مشيع/متظاهر/ة.

عند الوصول إلى ساحة "باب مصلى" بدأ إطلاق الغاز المسيل للدموع، وبعده بلحظات بدأ إطلاق النار وسقط مزيد من الشهداء وسط الساحة .. بقي التابوت وسط الساحة ليقوم الوالد بعد ساعة بدفنه بهدوء، أما المظاهرة فغيرت اتجاهها لتدخل حارات حي "الزاهرة" لتتفرق بعد قليل بينما عناصر المخابرات تحاول القبض على المتظاهرين.

كان هناك في المقدمة وفي بعض الأزقة مجموعات وأفراد من المتظاهرين تفرقوا نتيجة إطلاق النار وبدأ عناصر المخابرات بملاحقتهم .. حاصر أربعة منهم شابة كانت تهتف بحماس، افترضت وربما تخيلت أنها من تلك اللواتي أطلقن "الزلاغيط" وسط الجامع ليشعلن المظاهرة والتشييع، أنها الفتاة التي أطلقت "الزلغوطة" الأولى، "فتاة زلغوطة الجامع".

قبضوا عليها، قبضوا على "فتاة زلغوطة الجامع"، لكن فجأة ظهر رجل، كان في الخمسين من عمره، رياضياً يتقن ألعاب القتال الفردي .. هاجمهم وهو أعزل وشاغلهم حتى استطاعت الفتاة الفرار لكنه وقع في أيدهم وساقوه لمقر الأمن الجنائي حيث قضى بضعة أسابيع، أنكر يومها علمه بأنهم من المخابرات وأنها متظاهرة قائلاً أنه ظنهم "زعران" يعتدون على شابة فتحركت نخوته ... عرفت هذ التفاصيل منه لأنه أحد معارفي بصلة قرابة بعيدة، كان في المظاهرة، وزرته بعد خروجه من المعتقل ليروي لي قصته.

تواريت مع قريبي الذي حضرت معه التشييع والمظاهرة في الأزقة والأمن يلاحقنا، التقيت بصديق مقرب كان بدوره حاضراً التشييع ليقودنا إلى منزل أحد أقربائه في المنطقة حيث قضينا ساعتين حتى خلت المنطقة من الأمن.

في الحقيقة، وفي طريق ومصير محتوم لكل مخلصٍ للثورة؛ لم تكن "فتاة زلغوطة الجامع" وحدها .. قريبي الذي كان برفقتي بات معتقلاً .. أما الرجل الشهم الذي أنقذ "فتاة زلغوطة الجامع" فقد استشهد ولداه الاثنان في المعتقل بعد عامين، أحدهما كان رقيباً مجنداً منشقاً والثاني ناشطاً لم يترك مظاهرة لم يشارك بها منذ أول مظاهرة دمشقية موثقاً بآلة التصوير أحداثاً هامة في خطوط النار .. أما صديقي الذي لجأنا لبيت معارفه فقد اعتقل بعد عام ليقضي ما يقرب من عامين في معتقلات النظام ليخرج وتتم ملاحقته من جديد، ليبقى متوارياً وناشطا في دمشق لسنتين رافضاً الحضور إلى ألمانيا حيث كانت "الفيزا" تنتظره منذ ما قبل اعتقاله، حتى ضاقت الأمور وحوصر فكان لابد من الخروج ليصل إلى ألمانيا عام 2016 ويكون اليوم من الفاعلين الأساسيين في يوم المرأة والمعتقلة السورية .. بالمناسبة اسمه "مروان العش".

لا أعلم بالضبط هوية ولا مصير "فتاة زلغوطة الجامع والمظاهرة وتشييع الشهيد" .. ربما اعتقلت واعتدى الوحوش عليها، ربما استشهدت تحت التعذيب أو نتيجة برميل متفجر في مناطق الحصار، أو ربما خرجت من المعتقل ليتكفل الجهلة في عائلتها بنبذها لأنها "عابتهم"، أو ربما استطاعت أن تخرج للشمال المحرر، وربما اعتقلها هناك أو لاحقها أدعياء الثورة والدين، وربما باتت في بلد مجاور تبحث عن لقمة عيشها بينما يتاجر باسمها أخريات لم يعرفن من الثورة إلا المؤتمرات والأموال، وربما غادرتنا بصمت غارقة في البحر محاولة الوصول إلى مهجر أقل قسوة، أو ربما وصلت لهذا المهجر غريبة وقد فقدت أعزاءها، وربما تكافح اليوم وحدها أو مع أبنائها اليتامى أبناء الشهيد أو ربما مع زوجها، تكافح في مهجرها أو تحت القصف في "المحرر الذي نزحت له من حصارها" مصرة على متابعة طريق الحرية الذي فقدت فيه مالها وبيتها وربما أعزاءها مقابل الحفاظ على قضيتها وثورتها وكرامتها وحريتها.

لا أعرف مصيرها .. لكنني أعرف أن عشرات ألاف النساء السوريات هم "فتاة زلغوطة الجامع" ..  المرأة السورية الناشطة الثائرة الحرة المعتقلة الشهيدة التي نحتفل ونفتخر بها .. المرأة التي تخوض المعركة الأكبر بعيداً عن الاحتفاليات المصنعة الاستعراضية الارتزاقية .. المعركة الأهم لا من أجل حقوقها كامرأة فقط، بل من أجل حقوق كل إنسان رجلاً كان أو امرأة.

فواز تللو / سياسي وباحث سوري

مركز آفاق مشرقية

تشييع الشهيد

كانت فتاة زلغوطة الجامع واحدة من هؤلاء

هنا انطلقت الزغلوطة من جديد

وهنا هاجمت ميليشيات النظام الأسدي موكب التشييع

المادة المنشورة تعبر عن رأي الكاتب ولا يتبناها بالضرورة مركز آفاق مشرقية، ويتحمل الكاتب المسؤولية القانونية والعلمية لمضمون هذه المادة.

: تقييمك للمقال
التعليقات
أيفو ريفول

الغعاليات عاطفية فوضوية لذلك فعالياتها قليلة بالمقارنة مع العنف المنظم ومن هنا يأتي أيضاً تصاعد الآلام، الحلول هي تحقيق السلام بوضعه كهدف (السلام لا يمس) كعقد إجتماعي تفرضه شعوب العالم.

| 0

من أيفو ريفول

اترك تعليقاً
1000
نشكر مساهمتكم والتعليق قيد المراجعة
Share
حقوق النشر محفوظة لمركز آفاق مشرقية الذي يصرح بإعادة نشر المواد شرط الإشارة إلى مصدرها بعبارة "المصدر : مركز آفاق مشرقية" © 2017 Oriental Horizons. All Rights Reserved.